أبو سليم اللداوي:
رحلة الصمود والعطاء
في صيف عام 1948،
كانت مدينة اللد (مدينه فلسطينيه)تشهد أيامًا عصيبة، والرصاص يزمجر في الشوارع،
والدخان يعم الأفق.
بين تلك الأجواء القاسية،
وقف أبو سليم أمام بيته المتواضع،
ينظر إلى زوجته الحانية التي تحتضن طفلتها الرضيعة،
وإلى ابنه البكر الذي لم يتجاوز السادسة بعد.
عيناه تفيضان بالحزن،
لكن قلبه كان ممتلئًا بإرادة فولاذية.
هاجرنا... أو نموت!
لم يكن أمامه خيارٌ آخر. فمع اقتراب الخطر، قرر أن يحمل أسرته الصغيرة ويغادر مدينته الحبيبة ماشيًا على الأقدام،
بلا زادٍ كافٍ،
ولا ماءٍ وافٍ.
كانت الشمس تحرق الأرض،
والأطفال يبكون من الجوع والعطش،
لكن أبو سليم كان يمسك بيد زوجته ويقول: اصبروا...
فالنجاة أمامنا.
رحلة المعاناة...
طريق الأمل
ساروا أيامًا وليالي، يفترشون الأرض ويحتضنون السماء،
يتناولون ما تيسر من طعامٍ أعطاهم إياه اللاجئون مثلهم. حتى وصلوا إلى نابلس،
لكن الحياة هناك كانت قاسية،
فالعمل شحيح،
والغربة مريرة.
لم يستسلم أبو سليم،
بل واصل المسير مع خاله وزوجته إلى منطقة الكرامة في الأردن،
لكن حر الصحراء كان لا يُطاق، خاصةً على طفلين صغيرين.
البداية من الصفر في عمان
وصلوا أخيرًا إلى عمان حيث استقروا في حي المهاجرين،
الذي كان ملاذًا للاجئين أمثاله.
كان أبو سليم يعمل في اللد سائق قطار، يتقن الإنجليزية والعبرية،
لكنه في المنفى لم يجد إلا بيع الخضار في السوق.
كان ينزل كل يوم قبل الفجر، يحمل صناديق البندوره والخيار على عربته،
ويصرخ في الأسواق: خضار طازجة!
بينما قلبه ينزف حنينًا إلى مهنته القديمة.
لكنه لم ييأس،
بل كان يقول: العمل شرف...
والأهم أن نعيش بكرامة.
التضحية من أجل الأبناء
رغم الفقر والتعب، كان أبو سليم حريصًا على تعليم أولاده،
يؤمن بأن العلم سلاح المستقبل.
كان يبيع الخضار نهارًا،
ويجلس مع أولاده ليلًا يساعدهم في دروسهم،
ويحكي لهم عن مدينتهم اللد،
عن بيارات البرتقال،
وصوت القطار الذي كان يقوده ذات يوم.
لا تنسوا أبدًا من أين أتيتم...
كان يردد عليهم.
الرحيل... بعد إكمال الرسالة
في عام 1976، أغمض أبو سليم عينيه إلى الأبد، لكنه رحل وهو يعلم أنه انتصر.
فقد رأى أبناءه يكبرون..
بكرامة وعلم،
ورأى أحفاده يرفعون رؤوسهم بفخر.
لقد حمل هموم الهجرة، وصنع من المعاناة قصة بطولة.
اليوم، كل حجر في عمان يحكي قصة اللداوي الذي لم ينكسر،
بل حوّل الشتات إلى منارة أمل.
فهو لم يمت...
بل صار أسطورة تُروى.
هكذا تُكتب البطولات...
ليس بالدماء فحسب،
بل بالصبر والعمل والتضحيات.
سالم غنيم
حكواتي الوجدان الشعبي
من مجموعتي القصصية
جرح الدم