غريب الدمنهوري...
الحقيقة المرة
في قلب حي السيدة زينب في القاهرة،
كان يعيش رجل يُدعى غريب الدمنهوري. كل أهل الحي يعرفونه،
ليس لأنه غني ولا لأنه صاحب جاه،
بل لأنه كان دائم الجلوس في القهوة الشعبية بعد المغرب،
ببدلته القديمة وكرافتته التي لا تناسب لونها،
يتحدث بثقة وكأنه وزير في الحكومة!
كان إذا جلس، يضع ساقًا على ساق،
يشعل سيجارته الرخيصة،
ثم يبدأ الحديث بصوت خافت في البداية، قبل أن يرتفع ليلفت الأنظار:
أنا يا جماعة اعمل في وزارة الخارجية... رقم واحد!
كل الأوراق المهمة ما تخرج إلا بتوقيعي... السفراء ما يتحركوا إلا بإشارة مني!
وكان الحاضرون ينبهرون.
بعضهم يسأله عن كواليس السفراء،
وآخر عن أسرار المؤتمرات الدولية،
فيجيب غريب بحكايات طويلة مليئة بالمصطلحات الغامضة:
تعرف يا سالم...
مرة كنت مع الوزير في نيويورك...
الأمريكان كلهم واقفين يستنوا قرار منّي!
وسالم، جاره وابن المنطقة،
كان يصدّق نصف الكلام،
ويضحك في داخله على النصف الآخر،
لكنه لم يشكك علنًا في كلام غريب احترامًا للعِشرة.
مرت السنوات،
وتقاعد غريب...
وبقي على حاله في القهوة،
يروي بطولاته الدبلوماسية.
وفي يوم من الأيام، احتاج سالم إلى مصادقة وكالة من ابن أخيه المغترب.
ذهب إلى وزارة الخارجية،
وبمجرد أن دخل المبنى الضخم، تساءل في نفسه:
طيب ما أنا ليه ما أستعين بغريب؟
ده كان كبير الوزارة...
أكيد له معارف!
عاد إلى الحي،
دخل القهوة،
وجد غريب في مكانه المعتاد،
فاقترب وقال:
إزيك يا أستاذ غريب؟
بدي منك خدمة صغيرة...
عايز مصادقة من الخارجية.
فرد غريب بابتسامة الواثق:
ولا يهمك يا سالم...
أنا الخارجية بيتي!
بكرة نخلصها وانت مغمّض.
في اليوم التالي، اصطحبه غريب بنفسه إلى الوزارة. كان سالم يمشي خلفه بكل فخر، كأنه مع شخصية مهمة.
دخلوا المبنى،
مرّوا على البوابات،
وغريب يمشي مرفوع الرأس،
حتى وصلوا إلى أحد المكاتب.
ابتسم غريب للموظف الجالس وقال بثقة:
إزيك يا أستاذ محمود...
عامل إيه؟
فرفع الموظف رأسه باستغراب:
مين حضرتك؟
قال غريب:
أنا غريب...
غريب الدمنهوري...
كنت هنا زمان.
رد الموظف بلا اهتمام:
أهلاً وسهلاً...
كنت بتشتغل إيه؟
قال غريب مبتسمًا:
– أنا كنت...
كنت...
آه ...ها...مراسل...اخفض صوته..
كنت بجيب الملفات من دور لدور.
تجمّدت ابتسامة سالم. التفت إليه بدهشة، وصوت غريب بدأ يختفي مع ضحكات الموظفين اللي حواليهم.
اكتشف الحقيقة:
غريب لم يكن دبلوماسيًا،
ولا حتى موظفًا كبيرًا...
كان مجرد مراسل يقدم الشاي ويحمّل الملفات.
خرج سالم من الوزارة بخطوات ثقيلة، وغريب يسير خلفه صامتًا،
بعد أن انهار عالم الأكاذيب الذي بناه لسنوات.
وفي القهوة...
لم يجلس غريب في مكانه المعتاد ذلك اليوم...
سالم حسن غنيم
حكواتي الوجدان الشعبي
من مجموعتي القصصيه
ناصحون في ثياب الذئاب